سأكتب عنها ، وليس عن دونالد ترامب وأنجيلا ميركل و السادات و مبارك وأوباما وكلينتون و داعش والإخوان وغيرهم ، من ذوي الأسلحة القوية أو السلطات أو الثروات ، ممن يدور الكتاب والصحفيون والاعلاميون في فلكهم ، كما يدور الهاموش حول أي لمعة في الظلمة ،
سأكتب عنها المجهولة الإسم والجسم ، جاءت منذ سنين كثيرة ، تريد أن تشتغل خادمة في بيتي لتعول طفليها ، قالت : أنا سميرة كنت معاكي في أولي إبتدائي مش فاكراني ؟
فورا عادت ملامحها الطفولية المضيئة من تحت الوجه المتهدل المنطفيء ، كانت أذكي بنات الفصل ، انقطعت عن الدراسة فجأة ، أبوها حبسها بالبيت ليزوجها بالقوة ، طلقها زوجها شفهيا ليتزوج بأخري ، خرجت بإبنها وابنتها الي الشارع ، دارت بهما في المحاكم ، لإثبات الطلاق ، ولطلب النفقة ، لم ينسب الأب البنت إليه ليحرمها من إرثه ، لم تملك الأم أجر المحامين ، لم يكن لها إلا الله ، لكن العناية الالهية لا يضمونها لأوراق المحكمة ، أصبحت سميرة خادمة بالبيوت هي وإبنتها ، وإبنها أصبح عاملا باليومية ، تزوج خادمة بالبيوت ، أنجبت ولدان ، أحدهما قتل في العراق ، والثاني إشتغل في ليبيا ، تزوج وأنجب ولدان ، أحدهما هاجر الي إيطاليا ، والثاني قتل في الحرب ضد داعش ، وهكذا ،
رأيتها بالأمس ، سميرة ، أو إبنتها أو حفيدتها ، ملامحها منطفئة متحجرة ، تعرج داخل حجابها الأسود ، في طابور الأمهات المثاليات ، روحها غائبة ، جسمها مغترب عن شكلها وإسمها ، كأنما لشخص غريب ، ناولها المحافظ شهادة تقدير مكتوبة بحروف مذهبة ، لم تكن تفك الخط ، فلم تقرأها ،
حين بدأت أكتب عن قضية المرأة في منتصف الخمسينات ، قالوا ، قضية المرأة مستوردة من الغرب لضرب الإسلام والمسلمين ،
منذ ستين عاما وأكثر ، بعد تخرجي في كلية الطب ، بدأت أعيد دراستي الطبية ، وأربطها بدراسة التاريخ والفلسفة وعلم نشوء الكون ، من أجل الإجابة عن أسئلة بسيطة من نوع : لماذا تقطع أجزاء من أجساد الأطفال الأصحاء ، ويسمونها ، عمليات طهارة ؟ لماذا يشطب المدرس علي إسم أمي حين أكتبه بجوار إسم أبي علي كراستي ؟ لماذا حرمت أمي من دراسة الموسيقي وكان حلم حياتها أن تكون موسيقية تؤلف السيموفونيات ولا تلد تسعة بنات وأولاد ؟ ،
لماذا يربطون المرأة بزوجها وعياله وليس بها نفسها وما تحققه بعقلها ؟
لماذا يكون دور الأم والزوجة هو الدور الآساسي الذي تفرضه عليها الدولة والعائلة ؟
لماذا تكون المرأة المثالية هي صاحبة الرحم وليس صاحبة العقل ؟ هل ورثنا عن سيجموند فرويد مقولته الزائفة ” المرأة تلد الأطفال ولا تلد الأفكار ؟ ،
لماذا يمجدون الرجل المفكر ويكرهون المرأة المفكرة ؟ كأنما المرأة التي تفكر من غرابة الأطوار ، عاهة ، مثل نتوءات في عظام العمود الفقري ؟
لا يمكن الوصول للإجابة عن هذه الأسئلة ، إلا عبر طريق شاق طويل داخل التاريخ والعلوم والأديان ، لتفكيك جذور السلطة الأبوية الطارئة في التاريخ البشري ، لم تنفصل سلطة الأب عن سلطة الحاكم الفرد أو الطبقة الحاكمة ، لهذا يستمر الاستعبداد والاستبداد بالنساء والفقراء ، وتستمر معه الحروب المحلية والعالمية ، وتطوير أسلحة القتل والدمار الشامل والتجسس والخداع والنهب والاستعمار ،
الأب الذي يكذب علي الأم ، في الأسرة الصغيرة ، ليس إلا الحلقة الأولي من سلسلة الأكاذيب الكبري بين الدول ،
لا تنفصل الأكاذيب السياسية عن الاقتصادية والدينية والأخلاقية والجنسية ، لا تنفصل الخيانات الوطنية عن الخيانات العائلية ، يتجسس الزوج علي زوجته كما يتجسس رؤساء أكبر الدول في العالم علي أنفسهم وغيرهم ، لا تكف الجيوش الأقوي أن تفتك بالأضعف ولا يكف الآباء عن الإستبداد بالنساء والأطفال ،
مع ذلك تظل المرأة ، خاصة الفقيرة ، هي المطلوب منها التضحية والعطاء بحياتها وحياة أطفالها من أجل الدولة ، لا تقدم الدولة للنساء والفقراء إلا القهر وقصائد الشعر ، علي حين يرفل أصحاب الثروة والسلطة في النعيم ،
لماذا لا نري رجالا ونساءا من ذوي السلطة أو الثراء ، ضمن آباء وأمهات الشهداء ، إلا نادرا جدا ، قطرة مطر في الصحراء ؟
لماذا لم نر في مشرحة زينهم أيام الثورة أو الغزو الخارجي أو الداخلي ، إلا الأمهات الفقيرات المقهورات ؟
لماذا لا نري في المحاكم إلا طوابير الأمهات الفقيرات المطلقات شفهيا أو تحريريا أو الساعيات للحصول علي النفقة أو الإرث أو النسب لأطفالهن ؟
لماذا أصبحت جميع القوانين مدنية ، في الدولة المصرية ، إلا قانون الأسرة الذي يحكم الأمهات والزوجات دينيا ؟