على مدار السنين الطوال، بل القرون إذا ما صحّ القول بقي مسيحيو المشرق العربي راسخين في جذورهم المتوغلة في أعماق التاريخ الإنساني دونما خوف ولا وجل، حيث شكلوا بوجودهم كيانًا قائمًا بحدّ ذاته له صوته وقراره، كما كانوا من أهم دوائر الحدث وصنّاعه على مدى الوقت وظلوا شهودًا بل ومشاركين أيضًا في أهم المحطات التاريخية التي مرت وخلت بالمنطقة.
وفي ظل صراعات دامية أحكمت قبضتها -خاصة على سوريا والعراق- يكاد الشرق يخلو من مسيحييه وتكاد كنائسه تخلو من زائريها حيث طال الشر الجميع ووجد المسيحيون أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر، فإما البقاء في بلدانهم التي تعصف بها صراعات دموية تغذيها أحقاد طائفية ومذهبية، وإما الهجرة القسرية هربا من مصير مرير.
وعلى نفس الإطار، عانى المسيحيون أحلك الظروف و أبشعها في مختلف الفترات المتعاقبة تاريخيًا، حيث واجهوا الإضطهاد والتكفير والمجازر التي لم تتورع مختلف الأنظمة بنزاعاتها ومعاركها السياسية عن إستعمالهم وإدخالهم في نيرانها دونما إكتراث لمصيرهم، بدءًا من مجازر الدولة العثمانيّة ضد الارمن مطلع القرن الماضي، وصولاً إلى حروب 1948 و 1967 وما بينهما من ظروف حالكة وعصيبة، وإنتهاءًا بالحرب الأهلية اللبنانية، وأزمات أقباط مصر، وغزو العراق وتنظيم “داعش” وإخوانه.
ولطالما حافظ مسيحيو المشرق على توازنهم الجغرافي والسكاني طوال المحكات والأزمات التي عصفت بالشرق الأوسط منذ فجره، والتي لا تلبث جمرات حروبه ونزاعاته تخبو حينًا حتى تشتعل من جديد، حيث نجحوا في كسب الرهانات التي عُلّقت عليهم وظلوا يلعبون أدوارًا ثقافيةً وسياسية لا يمكن لأي باحث أو قارئ غض النظر عنها في مختلف المجالات الحياتية في دولهم.
كان المسيحيون في أصعب الأوضاع وأكثرها مشقّة متمسكين بأراضيهم وبوجودهم التاريخي الأصيل، رغم كل الدعوات الداخلية والخارجية إلى ترك أوطانهم، كما أكدوا حقهم الكامل وغير القابل للمساومة على العيش بحريّة تحت الشمس في ظل المواطنة ودولة التعدد، ورغم بساطة تلك المطالب وأحقيتها.. إلا أن بقع الدماء رافقتهم في دروب آلامهم نحو معركة الوجود.. ورافقتهم تلك الدماء في كل أقطارهم بدءًا من مصر، وصولاً إلى سوريا والعراق ولبنان وعلى فترات متعاقبة.
ففي عام 1975 دخل مسيحيو لبنان أكبر نفق مظلم في تاريخهم لم يوجد له مثيل إلا في أيامنا هذه، حيث حاربوا بعضهم البعض لأول مرة، ورفع بعضهم السلاح على بعض بحجج وإختلافات، وكانت الحروب الصغيرة والتناحر المسلح لا ينتهي بينهم، وغاب صوت العقل وإرتفعت أصوات المصالح والأحزاب، لم يفكر مسيحيو الجبل ولا بيروت ولا كسروان في وجودهم من عدمه، ولم يروا (حسب نظر الجميع) الخطر قادمًا بإتجاههم إلا قبل بضع سنوات … بعد أن تكوّنت “داعش” ونظيراتها.
جاءت “داعش” وأخواتها اللواتي جرفن بإنتحارييهن وإنغماسييهن كل ما هو مسيحي دون فرز أو إكتراث، دمرت الكنائس والأبرشيّات والبيوت، حطّمت الصلبان والتماثيل، وخيِّر المسيحي في العراق وسوريا بين دفع الجزية وهو صاغر، أو بين أن يصلب في مدخل شارعه كما صُلب مخلّصه.
إستفاق الأفرقاء على صوت تحطيم كنائس الموصل وأنين راهبات “معلولا”، وحرق أديرة الرقّة، إستفاقوا بعد أن رأوا مصيرًا أسودًا يحيق بهم دونما رحمة، ومن عدوٍ يخيرّهم بين تغيير دينهم أو الجزية أو القتل، وبعد أن شاهدوا الرايات السود فوق جرود لبنان الشرقيّة، في عرسال والقاع وغيرهما.
وفي سوريا التي دمرتها الحرب، يشكل المسيحيون بين 5 و9% من السكان (حوالى 22 مليون نسمة) حيث بقوا إلى حد كبير بمنأى من النزاع الذي أودى بأكثر من 320 الف قتيل، لكن الكثير منهم يؤيدون الرئيس بشار الأسد، وخصوصا بسبب التشدد الاسلامي لبعض الجماعات المعارضة.
بات المسيحيون في سوريا عرضة للاستهداف من قبل الجهاديين الذين نفذوا عمليات خطف جماعية ودمروا كنائس واديرة تاريخية أولها في معلولا وكسب وآخرها في محاولات تضييق الخناق عليهم ومضايقتهم في محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة الجهاديين بالكامل.
ويؤكد أسقف الكلدان في حلب “أنطوان أودو” في تصريحات إعلامية انه لم يبق سوى 30 الفا من المسيحيين من اصل 160 الفا عاشوا في حلب التي دمرتها المعارك واستعادت الحكومة السيطرة على احيائها التي كانت خاضعة للفصائل المقاتلة بعد حملة عنيفة. واضاف ان نصف 1,5 مليون مسيحي سوري غادروا البلاد وأغلبهم على غير عودة.
أما في العراق الجريح، فقد نُكِب المسيحيّون وحرقت ممتلكاتهم ودمرت كل مقتنياتهم وصودرت كل أراضيهم التي تمتدّ جذورها إلى قرونٍ خلت، وطُردوا منها نحو المجهول، حيث ذُبِّحوا علنًا داخل كنائسهم تحت أنظار العالم المتمدّن دونما شفقة في كنيسة سيّدة النجاة وغيرها من الفظائع التي لم يحرّك فيها أحد ساكنًا .
وعلى نفس الصعيد.. لم يسجّل تاريخ الشرق الأوسط أي ردود إنتقامية بدرت عن المسيحيين ضد ما تعرّضوا له من حروب وتقتيل وهجرة (بإستثناء الحرب اللبنانيّة التي أعتُبِرت حربًا وجوديّة حسب أدبيات اليمين اللبناني)، كما أنه لم تصدر عنهم أيّة فتاوى أو حتى أقاويل تكفِّر الآخر وتحلّل دمه، فمسيحيّو العراق كانوا الضحيّة دائمًا وسط التدافع المدوّي على المناصب والطائفية السياسية وحالة الفلتان الأمني غير المسبوق في البلاد، كما أن الشباب المسيحي أختار إما العيش بصمتٍ داخل وطنه دون المشاركة في أطماع الكراسي، أو شد الرحال نحو بلدان أخرى تُصقَل فيها إنسانيته وتُحفَظ فيها كرامته.
مسيحيو الشرق اليوم باتوا تائهين داخل دائرة مظلمة غير مفهومة، أصبحوا يفهمون اللعبة ولكنهم لا يستطيعون الدخول إليها، تتنازعهم التحالفات وتجذبهم الأقطاب المتعددة التي لا يشكّلون فيها الأغلبية، والأحفاد الجدد لا يرون أملاً قائمًا بعد حملات التهجير الممنهجة التي قامت بها التنظيمات التكفيريّة العديدة في سوريا والعراق، وحملات التكفير من مشائخ يفرضون عنتريّاهم على المجتمعات العربيّة وعلى عقول ساكنيها.. ويرون المستقبل مشوشًا غير واضح المعالم إن لم يكن قاتمًا أمامهم.
ووسط كل تلك الخيارات الدموية المتاحة، يجد المسيحيون أنفسهم وسط المعمعة الإقليميّة التي لا تنتهي، وسط أمال ضئيلة تتلاشى أمام الأعين في وجود حل ناجع يثبت وجودهم الأصيل وحقهم التام واللا مشروط في التواجد على هذه الأرض التي إحتضنت الجميع.